فصل: المسألة الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ التَّهْلُكَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

.المسألة الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:

رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ قَالَ: كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ، فَأَخْرَجُوا إلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَحَمَلَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، يُلْقِي بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمْ لَتَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} وَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحَهَا، وَتَرَكْنَا الْغَزْوَ؛ فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ.

.المسألة الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ النَّفَقَةِ:

فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نَدَبَهُمْ إلَى النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيْ هَلُمَّ».
الثَّانِي: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ}.
الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَخْرُجُوا بِغَيْرِ زَادٍ تَوَكُّلًا وَاتِّكَالًا.
وَحَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا، وَالِاتِّكَالُ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ لَا يَجُوزُ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ دَائِمٌ، وَالثَّانِي: قَدْ يُتَصَوَّرُ إذَا وَجَبَ الْجِهَادُ، وَالثَّالِثُ صَحِيحٌ لِأَنَّ إعْدَادَ الزَّادِ فَرْضٌ.

.المسألة الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ التَّهْلُكَةِ:

فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَا تَتْرُكُوا النَّفَقَةَ.
الثَّانِي: لَا تَخْرُجُوا بِغَيْرِ زَادٍ، يَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}.
الثَّالِثُ: لَا تَتْرُكُوا الْجِهَادَ.
الرَّابِعُ: لَا تَدْخُلُوا عَلَى الْعَسَاكِرِ الَّتِي لَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهَا.
الْخَامِسُ: لَا تَيْأَسُوا مِنْ الْمَغْفِرَةِ؛ قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِهَا لَا تَنَاقُضَ فِيهِ، وَقَدْ أَصَابَ إلَّا فِي اقْتِحَامِ الْعَسَاكِرِ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ.
فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ عُلَمَائِنَا: لَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ عَلَى الْجَيْشِ الْعَظِيمِ إذَا كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ وَكَانَ لِلَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ فَذَلِكَ مِنْ التَّهْلُكَةِ.
وَقِيلَ: إذَا طَلَبَ الشَّهَادَةَ وَخَلَصَتْ النِّيَّةُ فَلْيَحْمِلْ؛ لِأَنَّ مَقْصِدَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: طَلَبُ الشَّهَادَةِ.
الثَّانِي: وُجُودُ النِّكَايَةِ.
الثَّالِثُ: تَجْرِيَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ.
الرَّابِعُ: ضَعْفُ نُفُوسِهِمْ لِيَرَوْا أَنَّ هَذَا صُنْعُ وَاحِدٍ، فَمَا ظَنَّك بِالْجَمِيعِ، وَالْفَرْضُ لِقَاءُ وَاحِدٍ اثْنَيْنِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا}:

فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاَللَّهِ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ.
الثَّانِي: فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
الثَّالِثُ: أَحْسِنُوا إلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ.
قَالَ الْقَاضِي: الْإِحْسَانُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْحُسْنِ، وَهُوَ كُلُّ مَا مُدِحَ فَاعِلُهُ.
وَلَيْسَ الْحُسْنُ صِفَةً لِلشَّيْءِ؛ وَإِنَّمَا الْحُسْنُ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ بِمَدْحِ فَاعِلِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْلَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ: «مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك». اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}.
وَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْإِذْنِ بِالْقِتَالِ لِلْمُحْرِمِينَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِذَا فُوجِئُوا بِالْقِتَالِ بَغْيًا وَعُدْوَانًا، فَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا أَتَمَّ الِاتِّصَالِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ عَامَّةً وَفِي الْحَجِّ خَاصَّةً. وَهُوَ فِي أَشْهُرٍ هِلَالِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ كَانَ الْقِتَالُ فِيهَا مُحَرَّمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُدَّ عَنِ الْبَيْتِ ثُمَّ صَالَحَهُ الْمُشْرِكُونَ، فَرَضِيَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَامَهُ الْقَابِلَ وَيُخْلُوا لَهُ مَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَطُوفُ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْقَابِلُ، تَجَهَّزَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَخَافُوا أَلَّا تَفِيَ لَهُمْ قُرَيْشٌ وَأَنْ يَصُدُّوهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْقُوَّةِ وَيُقَاتِلُوهُمْ، وَكَرِهَ أَصْحَابُهُ قِتَالَهُمْ فِي الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} يَقُولُ: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ تَخَافُونَ أَنْ يَمْنَعَكُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ عَنْ زِيَارَةِ بَيْتِ اللهِ وَالِاعْتِمَارِ فِيهِ نَكَثًا مِنْهُمْ لِلْعَهْدِ وَفِتْنَةً لَكُمْ فِي الدِّينِ، وَتَكْرَهُونَ أَنْ تُدَافِعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِقِتَالِهِمْ فِي الْإِحْرَامِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ، إِنَّنِي أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الْقِتَالِ عَلَى أَنَّهُ دِفَاعٌفي سَبِيلِ اللهِ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ عِبَادَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَتَرْبِيَةً لِمَنْ يَفْتِنُكُمْ عَنْ دِينِكُمْ وَيَنْكُثُ عَهْدَكُمْ، لَا لِحُظُوظِ النَّفْسِ وَأَهْوَائِهَا، وَالضَّرَاوَةِ بِحُبِّ التَّسَافُكِ، فَقَاتِلُوا فِي هَذِهِ السَّبِيلِ الشَّرِيفَةِ مَنْ يُقَاتِلُكُمْ {وَلَا تَعْتَدُوا} بِالْقِتَالِ فَتَبْدَءُوهُمْ، وَلَا فِي الْقِتَالِ فَتَقْتُلُوا مَنْ لَا يُقَاتِلُ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ وَالْمَرْضَى، أَوْ مَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَكَفَّ عَنْ حَرْبِكُمْ، وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الِاعْتِدَاءِ كَالتَّخْرِيبِ وَقَطْعِ الْأَشْجَارِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْفِعْلَ الْمَنْفِيَّ يُفِيدُ الْعُمُومَ.
عَلَّلَ الْإِذْنَ بِأَنَّهُ مُدَافَعَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَعَلَّلَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أَيْ: إِنَّ الِاعْتِدَاءَ مِنَ السَّيِّئَاتِ الْمَكْرُوهَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لِذَاتِهَا فَكَيْفَ إِذَا كَانَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَفِي أَرْضِ الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ؟ ثُمَّ قَالَ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أَيْ: إِذَا نَشِبَ الْقِتَالُ فَاقْتُلُوهُمْ أَيْنَمَا أَدْرَكْتُمُوهُمْ وَصَادَفْتُمُوهُمْ وَلَا يَصُدَنَّكُمْ عَنْهُمْ أَنَّكُمْ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ إِلَّا مَا يُسْتَثْنَى فِي الْآيَةِ بِشَرْطِهِ {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أَيْ: مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أَخْرَجُوكُمْ مِنْهُ وَهُوَ مَكَّةُ؛ فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَخْرَجُوا النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهَا بِمَا كَانُوا يَفْتِنُونَهُمْ فِي دِينِهِمْ، ثُمَّ صَدُّوهُمْ عَنْ دُخُولِهَا لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ، فَرَضِيَ النَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَسْمَحُوا لَهُمْ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ بِدُخُولِهَا، لِأَجَلِ النُّسُكِ وَالْإِقَامَةِ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا أَنْ نَقَضُوا الْعَهْدَ، أَلَيْسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ أَنْ يُقَوِّيَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَأْذَنَ لَهُمْ بِأَنْ يَعُودُوا إِلَى وَطَنِهِمْ نَاسِكِينَ مُسَالِمِينَ، وَأَنْ يُقَاوِمُوا مَنْ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ مِنْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْخَائِنِينَ؟ وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ إِنَّهُمْ أَقَامُوا دِينَهُمْ بِالسَّيْفِ وَالْقُوَّةِ دُونَ الْإِرْشَادِ وَالدَّعْوَةِ؟ كَلَّا. لَا يَقُولُ هَذَا إِلَّا غِرٌّ جَاهِلٌ، أَوْ عَدُوٌّ مُتَجَاهِلٌ. ثُمَّ زَادَ التَّعْلِيلَ بَيَانًا فَقَالَ: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} أَيْ: إِنَّ فِتْنَتَهُمْ إِيَّاكُمْ فِي الْحَرَمِ عَنْ دِينِكُمْ بِالْإِيذَاءِ وَالتَّعْذِيبِ، وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الْوَطَنِ، وَالْمُصَادَرَةِ فِي الْمَالِ، أَشَدُّ قُبْحًا مِنَ الْقَتْلِ؛ إِذْ لَا بَلَاءَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَشَدُّ مِنْ إِيذَائِهِ وَاضْطِهَادِهِ وَتَعْذِيبِهِ عَلَى اعْتِقَادِهِ الَّذِي تَمَكَّنَ مِنْ عَقْلِهِ وَنَفْسِهِ، وَرَآهُ سَعَادَةً لَهُ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ. وَالْفِتْنَةُ فِي الْأَصْلِ: مَصْدَرٌ، فَتَنَ الصَّائِغُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِذَا أَذَابَهُمَا بِالنَّارِ لِيَسْتَخْرِجَ الزَّغَلَ مِنْهُمَا. وَيُسَمَّى الْحَجَرُ الَّذِي يَخْتَبِرُهُمَا بِهِ أَيْضًا فَتَّانَةً كَجَبَّانَةٍ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتِ الْفِتْنَةُ فِي كُلِّ اخْتِبَارٍ شَاقٍّ، وَأَشَدُّهُ الْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ وَعَنِ الدِّينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [29: 2] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَا تَقَرَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ} [22: 39، 40] الْآيَاتُ. وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَرْعِ الْقِتَالِ مُعَلَّلًا بِسَبَبِهِ مُقَيَّدًا بِشُرُوطِهِ الْعَادِلَةِ.
وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْفِتْنَةَ هُنَا وَفِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ بِالشِّرْكِ وَجَرَى عَلَيْهِ الْجَلَالُ، وَرَدَّهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِأَنَّهُ يُخْرِجُ الْآيَاتِ عَنْ سِيَاقِهَا، وَذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ هُنَا بِصِيغَةِ التَّضْعِيفِ. قيل: وَرَدَّ قَوْلَهُمْ أَيْضًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَبُرَ عَلَى هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ بِالْقِتَالِ مَشْرُوطًا لِاعْتِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَلِأَجْلِ أَمْنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدِّينِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ مَطْلُوبًا لِذَاتِهِ. وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ وَقِصَّةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا مَعْنَى لِكَوْنَ بَعْضِهَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ، وَأَمَّا مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْعُمُومَاتِ فِيهَا بِحُكْمِ أَنَّ الْقُرْآنَ شَرْعٌ ثَابِتٌ عَامٌّ فَذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ.
ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنَ الْأَمْرِ بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ أُدْرِكُوا فِيهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَقَالَ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} أَيْ: إِنَّ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ يَكُونُ آمِنًا، إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَ هُوَ فِيهِ وَيَنْتَهِكَ حُرْمَتَهُ فَلَا أَمَانَ حِينَئِذٍ. وَلَمَّا كَانَ الْقَتْلُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَمْرًا عَظِيمًا يُتَحَرَّجُ مِنْهُ أَكَّدَ الْإِذْنَ فِيهِ بِشَرْطِهِ وَلَمْ يَكْتَفِ بِمَا فُهِمَ مِنَ الْغَايَةِ فَقَالَ: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} وَلَا تَسْتَسْلِمُوا لَهُمْ، فَالْبَادِئُ هُوَ الظَّالِمُ، وَالْمُدَافِعُ غَيْرُ آثِمٍ.
{كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}.
أَيْ: إِنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُجَازِيَ الْكَافِرِينَ مِثْلَ هَذَا الْجَزَاءِ، فَيُعَذِّبُهُمْ فِي مُقَابَلَةِ تَعَرُّضِهِمْ لِلْعَذَابِ بِتَعَدِّي حُدُودِهِ فَيَكُونُوا هُمُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: {وَلَا تَقْتُلُوهُمْ} {حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} مِنْ قَتَلَ الثُّلَاثِيِّ، وَيَخْرُجُ عَلَى أَنَّ قَتْلَ بَعْضِ الْأُمَّةِ كَقَتْلِ جَمِيعِهَا لِتَكَافُلِهَا. وَالْمُرَادُ حَتَّى لَا يَقْتُلُوا أَحَدًا مِنْكُمْ، فَإِنْ قَتَلُوا أَحَدًا فَاقْتُلُوهُمْ وَهُوَ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ بَلِيغٌ. ثُمَّ قال: {فَإِنِ انْتَهَوْا} عَنِ الْقِتَالِ فَكُفُّوا عَنْهُمْ، أَوْ عَنِ الْكُفْرِ فَإِنَّ اللهَ يَقْبَلُ مِنْهُمْ {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يَمْحُو عَنِ الْعَبْدِ مَا سَلَفَ، إِذَا هُوَ تَابَ عَمَّا اقْتَرَفَ، وَيَرْحَمُهُ فِيمَا بَقِيَ، إِذَا هُوَ أَحْسَنَ وَاتَّقَى {إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [7: 56].
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} عَطَفَ عَلَى قَاتِلُوا فِي الْآيَةِ الْأُولَى، فَتِلْكَ بَيَّنَتْ بِدَايَةَ الْقِتَالِ وَهَذِهِ بَيَّنَتْ غَايَتَهُ وَهِيَ أَلَّا يُوجَدَ شَيْءٌ مِنَ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ حَتَّى لَا تَكُونَ لَهُمْ قُوَّةٌ يَفْتِنُونَكُمْ بِهَا وَيُؤْذُونَكُمْ؛ لِأَجْلِ الدِّينِ، وَيَمْنَعُونَكُمْ مِنْ إِظْهَارِهِ أَوِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} وَفِي آيَةِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [9: 39] أَيْ: يَكُونُ دِينُ كُلِّ شَخْصٍ خَالِصًا لِلَّهِ لَا أَثَرَ لِخَشْيَةِ غَيْرِهِ فِيهِ، فَلَا يُفْتَنُ لِصَدِّهِ عَنْهُ وَلَا يُؤْذَى فِيهِ، وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الدِّهَانِ وَالْمُدَارَاةِ، أَوِ الِاسْتِخْفَاءِ أَوِ الْمُحَابَاةِ، وَقَدْ كَانَتْ مَكَّةُ إِلَى هَذَا الْعَهْدِ قَرَارَ الشَّرَكِ، وَالْكَعْبَةُ مُسْتَوْدَعَ الْأَصْنَامِ، فَالْمُشْرِكُ فِيهَا حُرٌّ فِي ضَلَالَتِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَغْلُوبٌ عَلَى هِدَايَتِهِ، قَالَ: {فَإِنِ انْتَهَوْا} أَيْ: فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} أَيْ: فَلَا عُدْوَانَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْعُدْوَانَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الظَّالِمِينَ تَأْدِيبًا لَهُمْ لِيَرْجِعُوا عَنْ ظُلْمِهِمْ، فِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ بِالْحَذْفِ، وَاسْتِغْنَاءٌ عَنِ الْمَحْذُوفِ بِالتَّعْلِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَإِنِ انْتَهَوْا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقِتَالِ وَالْفِتْنَةِ فَلَا عُدْوَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ظَالِمًا بِارْتِكَابِهِ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ؛ أَيْ: فَلَا يُحَارَبُونَ عَامَّةً وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْمُجْرِمُ بِجَرِيمَتِهِ، ثُمَّ زَادَ تَعْلِيلَ الْإِذْنِ بِالْقِتَالِ بَيَانًا بِبِنَائِهِ عَلَى قَاعِدَةٍ عَادِلَةٍ مَعْقُولَةٍ فَقَالَ تَعَالَى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
لَمَّا خَرَجَ الْمُؤْمِنُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنُّسُكِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَقَاتَلُوهُمْ رَمْيًا بِالسِّهَامِ وَالْحِجَارَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ سَنَةَ سِتٍّ، وَلَوْ قَابَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَامَئِذٍ بِالْمِثْلِ وَلَمْ يَرْضَ النَّبِيُّ بِالصُّلْحِ لَاحْتَدَمَ الْقِتَالُ، وَلَمَّا خَرَجُوا فِي الْعَامِ الْآخَرِ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَكَرِهُوا قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ وَإِنِ اعْتَدَوْا وَنَكَثُوا الْعَهْدَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ- بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْمَحْظُورَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِنَّمَا هُوَ الِاعْتِدَاءُ بِالْقِتَالِ دُونَ الْمُدَافَعَةِ، وَأَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْفِتْنَةِ وَإِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ- لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ- هُوَ أَشَدُّ قُبْحًا مِنَ الْقَتْلِ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ الْعَامِّ وَهُوَ مَنْعُهُمُ الْحَقَّ وَتَأْيِيدُهُمُ الشِّرْكَ. ثُمَّ بَيَّنَ قَاعِدَةً عَظِيمَةً وَهِيَ أَنَّ الْحُرُمَاتِ- أَيْ: مَا يَجِبُ احْتِرَامُهُ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ- يَجِبُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ الْقِصَاصِ وَالْمُسَاوَاةُ فَقَالَ: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ حُجَّةً لِوُجُوبِ مُقَاصَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى انْتِهَاكِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِمُقَابَلَتِهِمْ بِالْمَثْلِ، لِيَكُونَ شَهْرٌ بِشَهْرٍ جَزَاءً وِفَاقًا.
وَفِي جُمْلَةِ {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} مِنَ الْإِيجَازِ مَا تَرَى حُسْنَهُ وَإِبْدَاعَهُ. ثُمَّ صَرَّحَ بِالْأَمْرِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمُعْتَدِي مَعَ مُرَاعَاةِ الْمُمَاثَلَةِ- وَإِنْ كَانَ يُفْهَمُ مِمَّا قَبْلَهُ- لِمَكَانِ كَرَاهَتِهِمْ لِلْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَالَ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَاعِدَةِ وَتَأْيِيدًا لِلْحُكْمِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِيمَا تَتَأَتَى فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، وَسَمَّى الْجَزَاءَ اعْتِدَاءً لِلْمُشَاكَلَةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْقَاتِلِ بِمِثْلِ مَا قَتَلَ بِهِ بِأَنْ يُذْبَحَ إِذَا ذَبَحَ، وَيُخْنَقَ إِذَا خَنَقَ، وَيُغْرَقَ إِذَا أَغْرَقَ، وَهَكَذَا. وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ. وَالْقَصْدُ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ عَلَى قَدْرِ الِاعْتِدَاءِ بِلَا حَيْفٍ وَلَا ظُلْمٍ، وَأَزْيَدُ عَلَى هَذَا مَا هُوَ أَوْلَى بِالْمَقَامِ وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ كَقَتْلِ الْمُجْرِمِينَ بِلَا ضَعْفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، فَالْمُقَاتِلُ بِالْمَدَافِعِ وَالْقَذَائِفِ النَّارِيَّةِ أَوِ الْغَازِيَةِ السَّامَّةِ يَجِبُ أَنْ يُقَاتَلَ بِهَا، وَإِلَّا فَاتَتِ الْحِكْمَةُ لِشَرْعِيَّةِ الْقِتَالِ وَهِيَ مَنْعُ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْفِتْنَةِ وَالِاضْطِهَادِ، وَتَقْرِيرُ الْحُرِّيَّةِ وَالْأَمَانِ، وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ. وَهَذِهِ الشُّرُوطُ وَالْآدَابُ لَا تُوجَدُ إِلَّا فِي الْإِسْلَامِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ شَرْحِ الْقِصَاصِ وَالْمُمَاثَلَةِ: {وَاتَّقُوا اللهَ} فَلَا تَعْتَدُوا عَلَى أَحَدٍ وَلَا تَبْغُوا وَلَا تَظْلِمُوا فِي الْقِصَاصِ بِأَنْ تَزِيدُوا فِي الْإِيذَاءِ. وَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى بِمَا بَيَّنَ مِنْ مَزِيَّتِهَا وَفَائِدَتِهَا فَقَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} بِالْمَعُونَةِ وَالتَّأْيِيدِ، فَإِنَّ الْمُتَّقِيَ هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَبَقَاؤُهُ هُوَ الْأَصْلَحُ، وَالْعَاقِبَةُ لَهُ فِي كُلِّ مَا يُنَازِعُهُ بِهِ الْبَاطِلُ؛ لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ التَّقْوَى اتِّقَاءَ جَمِيعِ أَسْبَابِ الْفَشَلِ وَالْخِذْلَانِ.
وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ- وَهُوَ الْقِتَالُ- يَتَوَقَّفُ عَلَى الْجِهَادِ بِالْمَالِ، أَمَرَهُمْ بِهِ فَقَالَ: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَاتِلُوا رَابِطٌ لِأَحْكَامِ الْقِتَالِ وَالْحَجِّ بِحُكْمِ الْأَمْوَالِ السَّابِقِ، فَهُنَاكَ ذَكَرَ مَا يَحْرُمُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ مُجْمَلًا، وَهَاهُنَا ذَكَرَ مَا يَجِبُ مِنْ إِنْفَاقِهِ مِنْهُ كَذَلِكَ. وَسَبِيلُ اللهِ هُوَ طَرِيقُ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ. ثُمَّ ذَكَرَ عِلَّةَ هَذَا الْأَمْرِ وَحِكْمَتَهُ عَلَى مَا هِيَ سُنَّتُهُ فِي ضِمْنِ حُكْمٍ آخَرَ. فَقَالَ: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُضْعِفُكُمْ وَيُمَكِّنُ الْأَعْدَاءَ مِنْ نَوَاصِيكُمْ فَتَهْلِكُونَ.
وَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ التَّطَوُّعُ فِي الْحَرْبِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بِالطُّرُقِ الْحَرْبِيَّةِ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْعَدُوُّ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مُخَاطَرَةٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ، بِأَنْ تَكُونَ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى لَا لِنَصْرِ الْحَقِّ وَتَأْيِيدِ حِزْبِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْرَافُ الَّذِي يُوقِعُ صَاحِبَهُ فِي الْفَقْرِ الْمُدْقِعِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [7: 31].
وَفَسَّرَ الْجَلَالُ {سَبِيلِ اللهِ} بِطَاعَتِهِ: الْجِهَادُ وَغَيْرُهُ. و{التَّهْلُكَةِ} بِالْإِمْسَاكِ عَنِ النَّفَقَةِ وَتَرْكِ الْجِهَادِ. قَالَ: لِأَنَّهُ يُقَوِّي الْعَدُوَّ عَلَيْكُمْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَصَابَ مُفَسِّرُنَا وَأَجَادَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَفْسِيرِ النَّهْيِ عَنِ التَّهْلُكَةِ؛ أَيْ:
لَا تُقَاتِلُوا إِلَّا حَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّكُمُ النَّصْرُ وَعَدَمُ الْهَزِيمَةِ. وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ إِذْ لَا يَلْتَئِمُ مَعَ مَا سَبَقَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَهَى عَنِ الْإِسْرَافِ، وَلَا يَلْتَئِمُ مَعَ الْأُسْلُوبِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْتَئِمُ وَيُنَاسِبُ هُوَ مَا قَالَهُ الْجَلَالُ وَآخَرُونَ، فَالْمَعْنَى: إِذَا لَمْ تَبْذُلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَتَأْيِيدِ دِينِهِ كُلَّ مَا تَسْتَطِيعُونَ مِنْ مَالٍ وَاسْتِعْدَادٍ فَقَدْ أَهْلَكْتُمْ أَنْفُسَكُمْ. وَفِي أَسْبَابِ النُّزُولِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا {وَأَنْفِقُوا} الْآيَةَ، فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحِهَا وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ- وَصَحَّحَهُ- وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَهُ لَمَّا خَاطَرَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَدَخَلَ فِي صَفِّ الرُّومِ فَقَالَ النَّاسُ: أَلْقَى بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ. فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُؤَوِّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَذَكَرَهُ.
أَقُولُ: وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا بِالْمِرْصَادِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ كَثِيرُونَ فَلَوِ انْصَرَفُوا عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ إِلَى تَثْمِيرِ الْأَمْوَالِ لَاغْتَالُوهُمْ، وَإِصْلَاحُ الْأَمْوَالِ وَاسْتِثْمَارُهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ هُوَ أَسَاسُ الْقُوَّةِ، فَقُوى الدُّوَلِ عَلَى قَدْرِ ثَرْوَتِهَا، فَالْأُمَّةُ الَّتِي تُقَصِّرُ فِي تَوْفِيرِ الثَّرْوَةِ هِيَ الَّتِي تُلْقِي بِأَيْدِيهَا إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَالَّتِي تُقَصِّرُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِلِاسْتِعْدَادِ لِقِتَالِ مَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهَا تَكُونُ أَدْنَى إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَلَا ثَرْوَةَ مَعَ الظُّلْمِ، وَلَا عَدْلَ مَعَ الْحُكْمِ الْمُطْلَقِ الِاسْتِبْدَادِيِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ عَلَى عُمُومِهِ؛ أَيْ: أَحْسِنُوا كُلَّ أَعْمَالِكُمْ وَأَتْقِنُوهَا فَلَا تُهْمِلُوا إِتْقَانَ شَيْءٍ مِنْهَا، وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّطَوُّعُ بِالْإِنْفَاقِ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ التَّوْبَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا آيَةَ السَّيْفِ. وَهَاكَ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مُحَصِّلُ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا، وَهُوَ إِبَاحَةُ الْقِتَالِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْإِحْرَامِ بِالْبَلَد الْحَرَامِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ إِذَا بَدَأَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ، وَأَلَّا يُبْقُوا عَلَيْهِمْ إِذَا نَكَثُوا عَهْدَهُمْ وَاعْتَدَوْا فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، وَحُكْمُهَا بَاقٍ مُسْتَمِرٌّ لَا نَاسِخَ وَلَا مَنْسُوخَ؛ فَالْكَلَامُ فِيهَا مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَمْزِيقِهِ، وَلَا إِلَى إِدْخَالِ آيَةِ بَرَاءَةٌ فِيهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِيهَا، وَمَنْ حَمَلَ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ فِيهَا عَلَى عُمُومِهِ- وَلَوْ مَعَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ- فَقَدْ أَخْرَجَهَا عَنْ أُسْلُوبِهَا وَحَمَّلَهَا مَا لَا تَحْمِلُ.
وَآيَاتُ سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ هُمُ الْمُعْتَدِينَ. وَآيَاتُ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ هُمُ الْمُعْتَدِينَ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ آيَاتُ سُورَةِ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ فِي نَاكِثِي الْعَهْدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلِذَلِكَ قَالَ: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [9: 7] وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ نِكْثِهِمْ: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [9: 13] الْآيَاتِ.
كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَبْدَءُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ لِأَجْلِ إِرْجَاعِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَبْدَءُوا فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ لَكَانَ اعْتِدَاؤُهُمْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ بَلَدِهِ وَفِتْنَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِيذَاؤُهُمْ وَمَنْعُ الدَّعْوَةِ- كُلُّ ذَلِكَ كَافِيًا فِي اعْتِبَارِهِمْ مُعْتَدِينَ، فَقِتَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُ كَانَ مُدَافَعَةً عَنِ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ وَحِمَايَةً لِدَعْوَةِ الْحَقِّ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ تَقْدِيمُ الدَّعْوَةِ شَرْطًا لِجَوَازِ الْقِتَالِ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ الدَّعْوَةُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ لَا بِالسَّيْفِ وَالسِّنَّانِ، فَإِذَا مُنِعْنَا مِنَ الدَّعْوَةِ بِالْقُوَّةِ بِأَنْ هُدِّدَ الدَاعِي أَوْ قُتِلَ فَعَلَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَ لِحِمَايَةِ الدُّعَاةِ وَنَشْرِ الدَّعْوَةِ لَا لِلْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ؛ فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [2: 256] وَيَقُولُ: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [10: 99] وَإِذَا لَمْ يُوجَدُ مَنْ يَمْنَعُ الدَّعْوَةَ وَيُؤْذِي الدُّعَاةَ أَوْ يَقْتُلُهُمْ أَوْ يُهَدِّدُ الْأَمْنَ وَيَعْتَدِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَاللهُ تَعَالَى لَا يَفْرِضُ عَلَيْنَا الْقِتَالَ؛ لِأَجْلِ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَإِزْهَاقِ الْأَرْوَاحِ، وَلَا لِأَجْلِ الطَّمَعِ فِي الْكَسْبِ.
وَلِقَدْ كَانَتْ حُرُوبُ الصَّحَابَةِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لِأَجْلِ حِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَمَنْعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَغَلُّبِ الظَّالِمِينَ لَا لِأَجْلِ الْعُدْوَانِ، فَالرُّومُ كَانُوا يَعْتَدُونَ عَلَى حُدُودِ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ حَوْزَةَ الْإِسْلَامِ وَيُؤْذُونَهُمْ، وَأَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ الْمُتَنَصِّرَةِ يُؤْذُونَ مَنْ يُظَنُّ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَانَ الْفُرْسُ أَشَدَّ إِيذَاءً لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ مَزَّقُوا كِتَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَضُوا دَعْوَتَهُ وَهَدَّدُوا رَسُولَهُ وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ اقْتَضَتْهُ طَبِيعَةُ الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ كُلُّهُ مُوَافِقًا لِأَحْكَامِ الدِّينِ، فَإِنَّ مِنْ طَبِيعَةِ الْكَوْنِ أَنْ يَبْسُطَ الْقَوِيُّ يَدَهُ عَلَى جَارِهِ الضَّعِيفِ، وَلَمْ تُعْرَفْ أُمَّةٌ قَوِيَّةٌ أَرْحَمَ فِي فُتُوحَاتِهَا بِالضُّعَفَاءِ مِنَ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، شَهِدَ لَهَا عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ بِذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي الْقِتَالِ أَنَّهُ شُرِعَ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ وَحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَنَشْرِهَا، فَعَلَى مَنْ يَدَّعِي مِنَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ أَنَّهُ يُحَارِبُ لِلدِّينِ أَنْ يُحْيِيَ الدَّعْوَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، وَيُعِدَّ لَهَا عُدَّتَهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ بِحَسَبِ حَالِ الْعَصْرِ وَعُلُومِهِ، وَيَقْرِنُ ذَلِكَ بِالِاسْتِعْدَادِ التَّامِّ لِحِمَايَتِهَا مِنَ الْعُدْوَانِ، وَمَنْ عَرَفَ حَالَ الدُّعَاةِ إِلَى الدِّينِ عِنْدَ الْأُمَمِ الْحَيَّةِ وَطُرُقَ الِاسْتِعْدَادِ لِحِمَايَتِهِمْ يَعْرِفُ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ.
وَبِمَا قَرَّرْنَاهُ بَطَلَ مَا يَهْذِي بِهِ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ- حَتَّى مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَيْهِ- مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ قَامَ بِالسَّيْفِ، وَقَوْلُ الْجَاهِلِينَ الْمُتَعَصِّبِينَ: إِنَّهُ لَيْسَ دِينًا إِلَهِيًّا؛ لِأَنَّ الْإِلَهَ الرَّحِيمَ لَا يَأْمُرُ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَأَنَّ الْعَقَائِدَ الْإِسْلَامِيَّةَ خَطَرٌ عَلَى الْمَدَنِيَّةِ؛ فَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَالْإِسْلَامُ هُوَ الرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ لِلْعَالَمِينَ. اهـ.